حل جهاز أمن الدولة؟؟؟ الحلقة الثانية
* في بحثي عن من أصدر قرار تصفية جهاز أمن الدولة.. وكأني أبحث عن شخص يتطوع ليلعن نفسه أمام التاريخ.. قرار يتبرأ منه كل من ارتبطوا به.. فصرت كمن يبحث عن أب لطفل ابن سفاح يتهرب من مسئوليته كل الناس.
* في حنق وغضب كانت الجماهير في الشارع تطالب ليس بحل الجهاز فحسب.. بل تمزيقه و بعثرة أشلائه في الريح.. لكن هل وحدها عواطف الجماهير من تصنع القرارات ؟؟ هنا كان مربط الفرس..!!.
تحقيق: حنان بدوي
انهارت منظومة الأمن القومي في السودان مباشرة بعد صدور قرار (تصفية جهاز امن الدولة ).. لم تكن الترتيبات الإدارية للقرار تحمل أي مضامين تؤكد أن متخذي القرار تحسبوا لما بعد القرار..
عشرات من عملاء الجهاز في الداخل والخارج انقطعت خيوط الاتصال بهم دفعة واحدة ومارست الأحزاب السياسية السودانية عمليات نهب لمعلومات الجهاز في وضح النهار. استباحت الحرز القومي من ثروة المعلومات الاستخبارية لدى الجهاز.. بل وبدأ بعض الأحزاب يستخدم هذه المعلومات في الابتزاز وتصفية الحسابات السياسية.
قبل مواصلة عملية البحث عن من كان وراء قرار حل جهاز امن الدولة.. الأفضل أن نلقى نظرة على الجهاز نفسه. من أي رحم ولد وكيف تطور حتى صار احد أعتى أجهزة الاستخبارات في الإقليم..
صناعة الأمن في السودان !!
منذ عودة الحكم البريطاني إلى السودان بعد عام 1898 اهتمت الحكومة بالنشاط الاستخباري والأمني.. لمواجهة هواجس عودة (المهدية) المناهضة للاستعمار..
نشأ جهاز الأمن تحت إدارة السكرتير الإداري في العهد الاستعماري.. وأطلق عليه (القسم المخصوص) لمتابعة ما يسمى بالنشاط الهدام Subversive Activities وكان دوره متابعة النشاط الشيوعي والنقابي. ولأن البريطانيين كانوا يؤمنون بان الحركات السياسية في مصر هي التي تغذي المد الثوري في السودان أنشأت الإدارة البريطانية وحدتين صغيرتين بكل من القاهرة ولندن لمتابعة هذا النشاط.
واستمر (القسم المخصوص ) بعد الاستقلال تابعاً لوزارة الداخلية..
بعد تغيير الحكم في 25 مايو 1969 تولى الرائد فاروق عثمان حمد الله وزارة الداخلية... وتم تعيين السيد زيادة ساتى رئيساً للجهاز يعاونه كل من محمد احمد سليمان و عبد العظيم محمد عبد الحفيظ وكانا مسؤلين عن العمل الميداني والعمليات و بعد الانقلاب الفاشل في 19 يوليو 1971 تم فصل الأمن الداخلي من وزارة الداخلية تحت اسم (الأمن العام) وترأس الجهاز السيد عبد الوهاب إبراهيم بدرجة وزير وأجرى تعديلات في أسلوب العمل مستخدماً هيكلاً بسيطاً يتكون من إدارة العمليات والسجلات وتشرف إدارة العمليات على كل النشاط الميداني.
جهاز الأمن القومي
بطبيعة الحكومة العسكرية التي جاءت بعد مايو 1969 فقد جنحت إلى تأمين نفسها مستخدمة خبرات بعض قيادييها العسكريين الاستخبارية.. فأنشأت جهاز الأمن القومي الذي يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية وعهدت برئاسته للرائد مأمون عوض أبو زيد عضو مجلس قيادة الثورة وأحد خبراء الاستخبارات العسكرية.. لكن عمل الجهاز كان يتركز في مكافحة التجسس والمخاطر الأجنبية فهو أقرب إلى جهاز مخابرات.
واهتم مأمون عوض أبوزيد بانتداب العسكريين إلى الجهاز من الاستخبارات العسكرية كما استوعب عدداً من الجامعيين المتخصصين فى المجالات العلمية المختلفة و انتدب عدداً من موظفى الخدمة المدنية.
بعد انتهاء فترة الرائد مأمون عوض أبو زيد ترأس الجهاز العميد الرشيد نور الدين الذي كان يعمل سفيراً بالمغرب و لم تمتد فترة رئاسته سوى بضعة اشهر حيث خلفه على رئاسة الجهاز الرائد على عبد الرحمن النميري بدرجة نائب وزير وحسب ما أورده العميد أمن (م) حسن بيومي في كتابه (جهاز امن الدولة) فقد انصب اهتمام الرائد على النميري على رفع كفاءة العاملين بالتدريب و إرسال فرق التدريب للخارج للدراسات الأمنية و السياسية و الدبلوماسية واتسمت فترته بالهدوء بالرغم من الإحداث العصيبة التي شهدتها مثل اتفاقية أديس ابابا و قرارات التأميم و المصادرة و احتواء حوادث شعبان و احتواء المنظمات العنصرية كما شهدت فترة رئاسة على النميري تقدماً واضحاً تجاه الأمن الخارجي وتعقد الهيكل التنظيمي للجهاز فأصبح يتكون من:
* القسم السياسى
* قسم المخابرات الخارجية
* القسم الدبلوماسي
* القسم الاقتصادي القسم الفنى
* قسم المراقبة والتحري
* قسم السجلات
* قسم المعلومات
* المستشار القانوني
جهاز أمن الدولة
تأسس جهاز أمن الدولة في العام 1978 بقانون صدر بالأمر المؤقت رقم(30) لسنة 1978م الذي بدأ سريانه منذ تاريخ التوقيع عليه فى 12/8/1978. ويتبع لرئيس الجمهورية ويتكون من:-
(أ) رئيس يعينه ويحدد درجته رئيس الجمهورية.
(ب) ضباط أمن يعينهم و يحدد عددهم رئيس الجمهورية.
(ت) أعضاء آخرين يعينهم و يحددهم درجاتهم رئيس الجهاز.
وتم تكوين جهاز امن الدولة عام 1978م بدمج جهاز الأمن العام و الأمن القومي الذي كان يرأسه عبد الوهاب إبراهيم.
(هذا الدمج كان نهاية للدور السياسي و الامنى للسيد عبد الوهاب إبراهيم و بداية لصعود نجم اللواء عمر محمد الطيب الذي صعد لمنصب نائب رئيس الجمهورية بعد إقصاء النائب الأول وقتها عبد الماجد حامد خليل و قد لعب اللواء عمر محمد الطيب دوراً مهماً في كل الأحداث التي جرت في تلك الفترة بدءاً بالمصالحة الوطنية وانتهاءً بالانتفاضة الشعبية في ابريل 1985م.) هذا ما ورد بكتاب العميد أمن حسن بيومي..
اختصاصات الجهاز
كانت اختصاصات الجهاز الجديد.. جهاز امن الدولة تنحصر في البحث والتحري لكشف أي نشاط داخلي أو خارجي معادٍ للدولة. وهو بالتالي يعمل في المنظومتين الداخلية والخارجية..
لكن القانون منح رجال امن الدولة علاوة على سلطاتهم الأخرى نفس صلاحيات رجال الشرطة الواردة في قانون الشرطة لعام 1977م و قانون الإجراءات الجنائية لعام 1974م.
رئيس جهاز امن الدولة مسئول أمام مجلس الأمن القومي ويقدم إليه تقاريره السرية.. وهو مجلس يضم في عضويته عدة جهات مرتبطة بالعمل العسكري والسياسي.
مجلس الأمن القومي مختص برسم سياسات الأمن العامة والإرشاد فيما يتعلق بالأمن وتنسيق أعمال أجهزة امن الدولة المختلفة وقيادة وضبط الأجهزة ويترأسه رئيس الجمهورية.
الجهاز.. في أعين الشعب..!!
كان نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري يعول كثيراً في استقرار حكمه على الذراع الطويلة لجهاز امن الدولة.. ففي خلال الـ(16) عاماً التي عاشها قبل سقوطه الداوي في أبريل عام 1985.. شهدت البلاد عدة حركات انقلابية و شعبيه كانت تستهدف الانقضاض على حكم الرئيس النميري.. لكن الجهاز ساهم بفعالية في إفشال غالبها وأفشل بعضها الذي نجح في اجتياز ساعة الصفر.
كفاءة الجهاز كانت تحسب بمعيارين متناقضين عملياً..المعيار الرسمي من وجهة نظر الرئيس النميري وحكومته.. والذي يرضى عن أداء الجهاز ودوره طالما كان حامياً للنظام ومثبتاً له.. كلما قمع المظاهرات أو الحركات الجماهيرية النقابية أو في الشارع.. والمعيار الشعبي الجماهيري الذي كان يرى في الجهاز مؤسسة ضخمة تمتص عوائد الدولة لصالح بقاء النظام وقياداته.. المعيار الشعبي متخم بصور التعذيب والأهوال التي كانت تروج عن جهاز الأمن..
الصورة الشعبية للجهاز قاتمة موغلة في الاستفزاز.. ونسج الخيال الشعبي كثيراً من القصص الحقيقية والمصطنعة التي ترسخ مفهوم الجهاز (الوحشي) الذي يمارس التعذيب و تدمير حرمات المواطنين وكرامتهم من اجل حماية الرئيس النميري وأعوانه.. وفي نظر الشعب أى ضابط الجهاز متهم حتى تثبت (جريمته!)..
وشاءت الطبيعة السرية المنغلقة لعمل الجهاز أن تسهم أكثر في الترويج لمثل هذا المفهوم الجماهيري عن جهاز أمن الدولة.
في ساعة الصفر.. !!
في الأيام الأخيرة قبل سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري.. كان واضحاً أن الأخطاء التي وقع فيها جهاز امن الدولة لم تكن كافية لسقوط النظام فحسب، بل إلى جر نقمة شعبية عارمة عليه تجعله الضحية الأولى للصورة التخيلية الجماهيرية عن جهاز امن الدولة.
كان اللواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز امن الدولة ونائب رئيس الجمهورية الشخص رقم واحد في السودان عندما انتفخت بطن الأحداث بجنين الانتفاضة الشعبية.. لكن الأحداث تحركت من مسار آخر.. من داخل القيادة العامة للقوات المسلحة التي خطا قائدها العام (الفريق أول) حينها عبد الرحمن سوار الذهب إلى الإمام وتسلم الحكم.. بينما عمر محمد الطيب خائف يترقب.. ويرسل البرقيات (عبر السفارة الأمريكية بالخرطوم) إلى الرئيس النميري في واشنطون للحضور فوراً لقمع الانتفاضة.. فبدا أمام الناس وكأنما الجهاز في كفة النظام.. مقابل الجيش في كفة الجماهير..
في حنق وغضب كانت الجماهير في الشارع تطالب ليس بحل الجهاز فحسب.. بل تمزيقه و بعثرة أشلائه في الريح.. لكن هل وحدها عواطف الجماهير من تصنع القرارات ؟؟ هنا كان مربط الفرس..!!
البحث عن الفاعل..!!
في بحثي عن مصدر قرار حل وتصفية جهاز أمن الدولة.. بدا الأمر وكأني أبحث عن شخص يتطوع بكامل عقله ورشده ليلعن نفسه أمام التاريخ ويسبها.. نفس القرار الذي تعجلوا في اتخاذه ثم تنفيذه في محاولة لاهثة لنيل رضاء الشعب وتحقيق الشعارات الثورية التي كانت تملأ شارع الانتفاضة في أبريل 1985.. يتبرأ منه كل من ارتبطوا به.. صرت كمن يبحث عن أب لطفل ابن سفاح يتهرب من مسئوليته كل الناس.
ومع ذلك دعونا نرسم الخارطة التي توضح بدقة موقع كل مسئول حينها لنعرف من أين جاء القرار.. الكارثة..
المجلس العسكري الانتقالي..!!
انتفاضة 6 أبريل 1985.. لم تكن عملاً شعبياً خالصاً... صحيح كانت المظاهرات الشعبية تجتاح العاصمة..لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كان بيان قيادة الجيش الذي أذاعه الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب في الساعة العاشرة من صباح السبت 6 أبريل 1985.. وبعدها أعلن عن تشكيل المجلس العسكري الانتقالي.. من قيادات أفرع القوات المسلحة والذي تولى فوراً السلطة.. ولم يتم تشكيل مجلس الوزراء إلا بعد ذلك بعدة أيام..
في حيز الأيام التي حكم فيها المجلس العسكري وقع الطلاق.. قرار تصفية جهاز امن الدولة.. إذن فليبدأ نطاق البحث من المجلس العسكري أولا..
تكون المجلس العسكري من 15 عضواً برئاسة الفريق أول عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب.. ونائبه الفريق تاج الدين عبد الله فضل والذي تولى رئاسة لجنة الأمن في المجلس العسكري الانتقالي.. ويضم المجلس قادة جميع أفرع القوات المسلحة بالعاصمة.. وهم عسكريون غالبهم لم يكونوا منخرطين في العمل السياسي.. وما كانت تتوفر لدى معظمهم أي دوافع ضد أو مع جهاز الأمن.. لكن البعض يشير إلى صلة خاصة (سابقة!) للفريق تاج الدين عبد الله بجهاز الأمن. سأعرض لها في حينها..
في الحلقة القادمة :
جهاز امن الدولة.. هل كان بؤرة فساد وإفساد.. ؟؟ نظرة فاحصة إلى كواليس جهاز الأمن من الداخل